فيروز وأنا
اول مرة سمعت فيها صوتها وهو يعبر أثير إذاعة البرنامج الثاني؛ كان عمري تسعة أعوام وكانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً، وهي تغني (من عز النوم بتسرقني/ وتروح لبعيد وتسبقني/ يا حبي صرت بآخر ارض/ عم امشي وتمشي/ لوينك بعدك لاحقني)!
لم افهم كثيراً ماذا كانت تعني تلك الكلمات؛ بإستثناء عز النوم الذي ايقظتني منه “ماما”؛ لنبدأ صباحاً جديداً من صباحاتنا في مكة، ذهبت مسرعة إلى الطابق العلوي بما انني ابنتها الكبرى؛ ما يحملني جزء من مسئولية البيت منها على سبيل المثال لا الحصر مساعدتها في تحضير الفطور؛ الذي كان يجمعني أنا وهي فقط في إجازة ما بين الفصليين الدراسيّن.
جلسنا في طرف الصالة الصغيرة؛ التي كانت اشبه بمطل يُشرف على فسحة نحو السماء؛ يتم تغطيتها في أيام المطر والبرد بشراعة كبيرة وبفصلها درجين أحدهما يأخذك نحو السطوح، والآخر ينزل بنا إلى دهليز البيت؛ وأمامنا صينية تحمل فنجانين وبراد شاهي صغير من الزجاج الأبيض، وقطعتين من الفطيرة التي كانت تصنعها ماما مغطاة بالحبة السوداء تنسجم لوناً مع الجبنة الكريمية التي كنت أحبها والجبنة البيضاء التي يأكلها الجميع إلا أنا!
يتخلل كل ذلك صوت نوال بخش وهي تقدم برنامجها البيت السعيد؛ التي كانت تحرص ماما كثيراً على الإستماع له. فيما كان يتردد في أذني صوت صاحبة الأغنية الصباحية، وسألت ماما عمّن تكون؟ فقالت لي: “فيروز”. ظل هذا الإسم ساكناً في عقلي؛ ادندن اللحن اثناء قيامي بأعمال المنزل؛ حتى شاءت الظروف أن التقيها مرةً أخرى في بيت أحد اخوال ماما.
كانت فترة الظهيرة والحر شديد؛ وتعليمات سيدي جميل نافذة لا أحد قادر على مراجعته فيها؛ امر بإغلاق النوافذ والشبابيك الخارجية؛ فأصبحت العتمة سيدة الموقف داخل الغرفة الكبيرة التي تضمنا؛ إلا من ضوء نهار تسلل من الخارجة المفتوحة؛ التي كانت متكئه العائلي بعد العصر؛ قبل أن ينتقل إلى مركازه بعد صلاة المغرب؛ عند مدخل البيت.
تلك العتمة تحولت في لحظة؛ إلى سطوع باهر من شاشة التلفزيون؛ سيدة بفستان وربطة عنق زرقاء؛ وشعرها البني المائل للإحمرارمنسدلاً على كتفيها ويغطي قليلاً من جبينها؛ لم اعرف في البداية من تكون؟؛ لكن تلك الصورة خطفتني؛ ثم ما لبث ان جاء صوتها وهي تغني (آخر أيام الصيفية / والصبية شوية شوية / نزلت ع ساحة ميس الريم / وانقطعت فيها العربية)؛
كنت حينها على وشك البدء باللعب مع اقراني؛ لكنني تسمرت امام الشاشة الصغيرة؛ واكملت مشاهدة مسرحية ميس الريم؛ التي لم أكن اعرف اسمها، ولم افهم كثيراً احداثها؛ بإستثناء الأغنيات والرقصات وحالة البهجة التي شعرت بها وأنا اشاهد فيروز للمرة الأولى؛ التي شكلت جزءً مهماً من وجداني من خلال “ماما”؛ التي علمتني كيف استمع لأغنياتها ومتي؟؟ وربما دون آن تُدرك هي نفسها ما علمتني إياه؛ كثيرة الأشياء الصغيرة التي لا نركن إليها؛ لكنها تنحتنا وتُشكلنا لنكون من نحن عليه.
مرت سنوات كبرت فيها، وكبرت في داخلي فيروز وأصبحت اشاهدها في التلفزيون في المرات القليلة التي كان يتم فيها عرض بعض من حفلاتها القديمة على مسرح البيكاديللي ومهرجانات بعلبك؛ ارتباطي بفيروز أصبح سمة من سماتي الشخصية؛ يعرفني به كل افراد عائلتي وبعض الصديقات القريبات مني؛ وصار عندي بمثابة وشاح رفيع تقلدته لا يُشبهني فيه أحد.
لم امتلك أسطوانة واحدة لفيروز حتى هذه اللحظة؛ رغم عشقي لصوتها واغنياتها؛ واشعر بتوأمه مع كل الحالة الفيروزية التي تبدأ مع فنجان القهوة المعتق بصوتها؛ وصولاً لعقد التسعينات التي اشتريت فيها الكاسيت الوحيد لها قبل أن يضيع!؛ على خلفية ما تم نشره حول التغيير في مستوي الأغاني الذي احتواه “كيفك انت؟ سلمللي عليه”؛ سمعت التجديد الفيروزي واستمتعت به كثيراً؛ وأصبح السؤال عن الحال وتبليغ السلام إضافة جديدة لطعم الأيام.
منتصف الثمانينات احيت فيروز حفلاً في اهرامات القاهرة؛ شاهدت الحفلة من خلال الڤيديو وكانت هذه هي المرة الأولى التي اشاهدها فيها تتحدث؛ عبر الحوار الذي اجراه معها الإعلامي السوري توفيق الحلاق؛ كان حواراً عادياً؛ كل اهتمامي كان منصباً على طريقة فيروز في الكلام وتعبيرات وجهها الخجولة؛ وابتسامتها التي كانت تظهر على صفحة وجهها على استحياء وتواضعها الكبير الذي لخصته في جملة “لا تخجلني”!
حفلة فيروز في القاهرة كانت حدثاً أحزنني عدم تمكني من حضورها في ذلك العمر! لكنني اكتشفت لاحقاً ان حضور الحفلات عموماً؛ لا يدخل ضمن الأشياء التي اريدها فعلاً وليست أولوية؛ إلى ان جاء الإعلان عن إقامة حفلتين لفيروز في بيروت في العام ٢٠١٢م. وهي في السبعينات من عمرها؛ كان ذلك موضوعاً للنقاش مع صديقاتي؛ وحملنا الخيال علي اجنحته ماذا لو كنّا ممن يحضر حفلة جارة القمر الأخيرة؟!
كنا قبل موعد الحفلة بيومين نشرب القهوة؛ في أحد مقاهي الخالدية؛ بدأنا نتحدث عن فيروز وحفلتها وعدد الحضور الهائل؛ وما هي إلا لحظات مجنونة قررنا فيها أن نكون ضمن الحاضرين؛ قطعنا الشارع مشياً على الأقدام متجهين إلى مكتب الخطوط السعودية، وقمنا بشراء تذاكر السفر في صباح اليوم التالي، وتأمين تذاكر الحفلتين عن طريق زميلات صحافيات في بيروت.
لا اعلم كيف حدث كل هذا مرة واحدة؛ لكنني ذهبت وحضرت الحفلة؛ ولم اجلس أكثر من ساعة واحدة!! لم أكن راضية عن الحفل والفوضى التي رأيتها؛ ولم اسمع فيروز التي أُحب؛ خرجت ولم اعد مرةً أخرى؛ واهديت التذكرة الثانية لأحد المارة! فضّلت الاحتفاظ بعيون عاليه التي لن تذبل في قلبي ابداً.
كتبته
أميمة الفردان